بقلم امين ناصر مهدي..
كانت الولايات المتحدة على مر الأزمنة موطنا للمهاجرين، وملجأ للهاربين من الحيف والظلم في أوطانهم، كما كانت أيضا محطة للمغامرين والباحثين عن مستقبل أفضل، وأولئك الذين يسعون نحو “الحلم الأمريكي”.
وكان الموريتانيون من آخر من حضروا، فهجرتهم حديثة نسبيا، بالمقارنة مع جاليات أخرى، كما أنها ظلت محدودة العدد، حين نقارنها بالأمم الأخرى؛ فما وراء بحر الظلمات لم يكن مغريا للمهاجر الموريتاني.
وهكذا حتى وقتٍ قريب، ظلّت هجرة الموريتانيون نحو الضفة الأخرى من المحيط بالكاد تستحق الذكر، فاقتصرت على أفراد قلّة، وفي فترات محدودة جدًا.
موجات الهجرة
يمكنُ القولُ إنَّ منتصف تسعينات القرن العشرين، شهدَ أول موجة هجرة موريتانية نحو الولايات المتحدة قد توصفُ بالكبيرة، وهي الموجة التي يمكنُ ربطها بسياق وطني يشجعُ على الهجرة؛ أولًا نحو أفريقيا ثم الخليج العربي، وقد تطرفتُ منه موجة أقل نحو الولايات المتحدة.
اختار مهاجرو هذه الموجة الأولى مدينة لويزفيل في ولاية كنتاكي، لتكون موطنهم الجديد، فاحتضن ذلك الموطن ما يمكنُ وصفه بأنه أول نواة لجالية موريتانية في الولايات المتحدة.
استمر تدفق المهاجرين الموريتانيين ببطء على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، حتى منتصف عام 2022، حين بدأت موجة غير مسبوقة من المهاجرين ضاعفت عدد أفراد الجالية في ظرفية قياسية.
حسب وثائق رسمية صادرة عن الحكومة الأمريكية، فقد وصل منذ منتصف 2022 وحتى منتصف 2023 حدود 12 الف مهاجر، وهو مايعني أن العدد الأجمالي للجالية تجاوز في ظرف قياسي 24 ألف نسمة.
التواجد الجغرافي
تنشرُ الجالية الموريتانية على امتداد التراب الأمريكي، فلا تكاد توجد ولاية أمريكية إلا وبها مهاجرون موريتانيون، ولكن هذا الانتشار يتفاوت من ولاية إلى أخرى.
على سبيل المثال؛ نسبة كبيرة من أفراد الجالية الموريتانية تعيشُ في الساحل الشرقي؛ وتحديدًا في مدينة نيويورك وضواحيها، وفي منطقة فرجينيا، بالإضافة إلى وجود معتبرٍ في جنوب الوسط بولاية لويزيانا و الولايات المحاذية لها،.
لكن أكثر من نصف الجالية حسب معطيات التسجيل الانتخابي الأخيرة تتمركز في منطقة الغرب الأوسط “ميد ويست”؛ وتحديدًا في مدن متقاربة نسبيا، هي سينسيناتي، وكولومبوس، وإنديانا بوليس وفلورنسا، هذا بالإضافة إلى أولى محطات المهاجر الموريتاني؛ مدينة لويزفيل .
المشاركة السياسية
لسنوات عديدة أظهرت الجالية الموريتانية في الولايات المتحدة اهتمامًا متزايدًا بالسياسة، فرغم البعد والانشغال لم تنقطع هذه الجالية عن الاهتمام بما يجري في الوطن، والمشاركة في النقاش العام.
وحين قررت السلطات السماح للجاليات في الخارج بالتصويت في الانتخابات التشريعية الأخيرة (2023)، شكلت دائرة انتخابية للأمريكيتين، ولكن في النهاية و لأسباب تقنية لم تصوت سوى جالية الولايات المتحدة فقط.
سجّل الآلاف من أفراد الجالية على اللائحة الانتخابية، وتوجهوا يوم الاقتراع إلى مكاتب التصويت الخمسة التي اعتمدت، وكانت نسبة التصويت جيدة، وبعد منافسة شديدة وديمقراطية، انتخبَ المهندس يحيى اللود ليكون أول نائب تنتخبه الجالية ليمثلها في البرلمان.
يحيى اللود سياسي معارض معروف، وناشط في مجال حقوق الإنسان، وأحد أفراد الجالية الفاعلين منذ عقود.
جاليّة عمالية
يمكنُ القول إن الجالية الموريتانية في الولايات المتحدة هي جالية عمالية في الأساس، وتبقى مجالات عمل أفرادها متنوعة، لكن الغالبية تتجه نحو الاستثمار في صناعة النقل، سواء في شركات نقل الأفراد أو نقل البضائع.
كما أن بعض أفراد الجالية يتجهون نحو الاستثمار في مجالات خدمية مثل المطاعم والمحلات العامة.
بعض التقديرات تشير إلى أنَّ التحويلات المالية من أفراد الجالية في الولايات المتحدة إلى موريتانيا تقدر بنحو 100 مليون دولار سنويا.
إنها جالية عمّالية، ومع ذلك هنالك شخصيات موريتانية برزت في مجالات طبية وأكاديمية وهندسية.
بيد أنَّ التعليم وامتهان الحرف، يبقى تحديا بالنسبة لكثير من أبناء الجالية، خصوصا أبناء الجيل الأول، وهم في المقام الأول عمال ولاجئون وتجار.
كما أن اللغة الإنجليزية شكلت حاجزا كبيرا أمام أفراد الجالية، لأن غالبيتهم غالبية الطلاب والمتخرجين حديثا، أكملوا تعليمهم العالي باللغة الفرنسية أو العربية.
كل هذا ينضاف إلى تكلفة التعليم الباهظة في الولايات المتحدة، التي تبقى تحديًا كبيرًا وعائقًا يصعبُ تجاوزه.
لكن الجانب المشرق في الموضوع هو تميزُ الجيل الثاني من المهاجرين، من مواليد نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة، ومعظمهم درس في الولايات المتحدة كل مراحل تعليمه، هؤلاء تميزوا في دراستهم، ونبغوا في تخصصات علمية مهمة.
مساهمات ثقافية واجتماعية
لا تزال المساهمات الثقافية للجالية في الولايات المتحدة دون الطموح، ومع ذلك فقد نجح أفراد الجالية في كولومبوس أوهايو، وغالبيتهم من سكان الضفة، نجحوا في تشييد مركز إسلامي ومسجد.
ومن المقرر افتتاح مركز إسلامي كبير في لويزفيل، رصدت له الجالية إمكانيات هامة.
كما أنَّ عددًا من أفراد الجالية يشتغلون أئمة ومحاضرين في مراكز إسلامية بعدد من المدن الأمريكية، ولهم مساهمتهم الكبيرة في الإشعاع العلمي والثقافي لموريتانيا.
مؤخرا قرر رؤساء مكاتب الجالية تخليد عيد الاستقلال الوطني في حفل موحد، احتضنت مدينة نيو أورليانز نسخته الأولى العام الماضي، في تجربة كانت ناجحة.
ومن أجل إتاحة فرصة اللقاء بين أفراد الجالية، وتعزيز قيم التواصل، تحرص الجالية على تنظيم بطولة لكرة القدم كل عام.
تنظيمات الجالية
نظرًا للامتداد الجغرافي الواسع للولايات المتحدة، عبر 50 ولاية، فإن مكاتب الجالية الموريتانية لا تتبع لجهاز مركزي موحد، وإنما هنالك مكاتب متفرقة لخدمة الجاليات حسب كثافتها.
توجدُ هذه المكاتب في كل من سينسيناتي ولويزفيل، وفلورانس، ومنطقة واشنطن وإنديانابوليس ونيو اورليانز، بالإضافة إلى منسقية للجالية في نيويورك.
هذه المكاتب غالبا تعمل في النطاق الجغرافي الواسع للمدينة التي توجد بها، وتقدم أدوارا مهمة وإن كانت محدودة، نظرا لطبيعة السياق الأمريكي وحياة المغترب.
تحديات وإشكالات
مع النمو تأتي التحديات. لقد فرضت موجة الهجرة الأخيرة ضغوطاً إنسانية واقتصادية على الجالية في الولايات المتحدة، إذ يلاحظ أن المهاجرين الجد يعانون من نقص كبير في التكوين، وفي إتقان اللغة الإنجليزية.
كما أن توفير عمل وسكن لائقين لآلاف المهاجرين الجدد، يعدُّ أحد الإشكالات المستمرة التي تواجه الجالية في الفترة الحالية.
أمَّا العائلات المهاجرة فتواجه تحدياتها الخاصة، التي في صدارتها تحدي المحافظة على الثقافة والقيم الإسلامية العربية في مجتمع غربي.
في الختام، إن الجالية الموريتانية في الولايات المتحدة، رغم كونها حديثة نسبيًا، نجحت في تركِ بصمتها في فسيفساء المجتمع الأمريكي، وقد ساعدها في ذلك النمط الأمريكي في الاندماج، المبني أساسا على التسامح واحترام الاختلاف.
وتبقى التحديات كبيرة والأعباء ثقيلة، فالمهاجر الموريتاني خلافا لغيره من المهاجرين غربا، لا يحرق مراكبه، ولايطمئن نومه في غربته، ويرى الحياة في أمريكا عابرة، وأن العودة إلى الوطن حتمية.